فصل: تفسير الآية رقم (17)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً‏}‏‏.‏

و ‏{‏كيف‏}‏ هذه مؤكدة ل ‏{‏كيف‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 7‏]‏ التي في الآية قبلها، فهي معترضة بين الجملتين وجملة‏:‏ ‏{‏وإن يظهروا عليكم‏}‏ إلخ يجوز أن تكون جملة حالية، والواو للحال ويجوز أن يكون معطوفة على جملة ‏{‏كيف يكون للمشركين عهد‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 7‏]‏ إخباراً عن دخائلهم‏.‏

وفي إعادة الاستفهام إشعار بأنّ جملة الحال لها مزيد تعلّق بتوجّه الإنكار على دوام العهد للمشركين، حتّى كأنّها مستقلّة بالإنكار، لا مجرّدُ قيد للأمر الذي توجّه إليه الإنكار ابتداء، فيؤول المعنى الحاصل من هذا النظم إلى إنكار دوام العهد مع المشركين في ذاته، ابتداء، لأنّهم ليسوا أهلاً لذلك، وإلى إنكار دوامه بالخصوص في هذه الحالة‏.‏ وهي حالة ما يبطنونه من نية الغدر إن ظهروا على المسلمين، ممّا قامت عليه القرائن والأمارات، كما فعلت هوازن عقب فتح مكة‏.‏ فجملة‏:‏ ‏{‏وإن يظهروا عليكم‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏كيف يكون للمشركين عهد‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وضمير ‏{‏يظهروا‏}‏ عائد إلى المشركين في قوله‏:‏ ‏{‏كيف يكون للمشركين عهد عند الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 7‏]‏ ومعنى ‏{‏وإن يظهروا‏}‏ إن ينتصروا‏.‏ وتقدّم بيان هذا الفعل آنفاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولم يظاهروا عليكم أحدا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 4‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ لو انتصر المشركون، بعد ضعفهم، وبعد أن جرّبوا من العهد معكم أنّه كان سبباً في قوتكم، لنقضوا العهد‏.‏ وضمير ‏{‏عليكم‏}‏ خطاب للمؤمنين‏.‏

ومعنى ‏{‏لا يرقبوا‏}‏ لا يوفوا ولا يراعوا، يقال‏:‏ رقَب الشيء، إذا نظر إليه نظر تعهّد ومراعاة، ومنه سمّي الرقيب، وسمّي المرْقَبَ مكان الحراسة، وقد أطلق هنا على المراعاة والوفاء بالعهد، لأنّ من أبطل العمل بشيء فكأنّه لم يَره وصرف نظره عنه‏.‏

والإلّ‏:‏ الحلف والعهد؛ ويطلق الإلّ على النسب والقرابة‏.‏ وقد كانت بين المشركين وبين المسلمين أنساب وقرابات، فيصحّ أن يراد هنا كلا معنييه‏.‏

والذمّة ما يمتّ به من الأواصر من صحبة وخلة وجوار ممّا يجب في المروءة أن يحفظ ويحمى، يقال‏:‏ في ذمّتي كذا، أي ألتزم به وأحفظه‏.‏

استئناف ابتدائي، أي هم يقولون لكم ما يرضيكم، كيداً ولو تمكّنوا منكم لم يرقبوا فيكم إلاّ ولا ذمّة‏.‏ من يسمع كلاماً فيأباه‏.‏

والإباية‏:‏ الامتناع من شيء مطلوب وإسناد الإباية إلى القلوب استعارة، فقلوبهم لمّا نوت الغدر شبّهت بمن يطلب منه شيء فيأبى‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وأكثرهم فاسقون‏}‏ في موضع الحال من واو الجماعة في ‏{‏يرضونكم‏}‏ مقصود منها الذمّ بأن أكثرهم موصوف، مع ذلك، بالخروج عن مهيع المروءة والرُّجلة، إذ نجد أكثرهم خالعين زمام الحياة، فجمعوا المذمة الدينية والمذمّة العرفية‏.‏ فالفسق هنا الخروج عن الكمال العرفي بين الناس، وليس المراد الخروج عن مهيع الدين لأنّ ذلك وصف لجميعهم لا لأكثرهم، ولأنّه قد عرف من وصفهم بالكفر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

موقع هذه الجملة موقع الاستئناف الابتدائي المشعر استئنافه بعجيب حالهم فيصد استقلاله بالإخبار‏.‏ وهذه الآية وصفَ القرآن فيها المشركين بمثل ما وصف به أهل الكتاب في سورة البقرة‏:‏ من الاشتراء بآيات الله ثمناً قليلاً، ثم لم يوصفوا بمثل هذا في آيةٍ أخرى نزلت بعدها لأنّ نزولها كان في آخر عهد المشركين بالشرك إذ لم تطل مدة حتّى دخلوا في دين الله أفواجاً، سنةَ الوفود وما بعدها، وفيها دلالة على هؤلاء الذين بقُوا على الشرك من العرب، بعد فتح مكة وظهور الإسلام على معظم بلاد العرب، ليس لهم افتراء في صحة الإسلام ونهوض حجّته، ولكنه بقُوا على الشرك لمنافع يجتنونها من عوائِد قومهم‏:‏ من غارات يشنّها بعضهم على بعض، ومحبّة الأحواللِ الجاهلية من خمر وميسر وزنى، وغير ذلك من المَذمات واللذّات الفائدة، وذلك شيء قليل «آثروه على الهدى والنجاة في الآخرة‏.‏ فلكون آيات صدق القرآن أصبحت ثابتة عندهم جعلت مِثل مال بأيديهم، بذلوه وفرّطوا فيه لأجل اقتناء منافع قليلة، فلذلك مُثّل حالهم بحال من اشترى شيئاً بشيء، وقد مضى الكلام على مثل هذه الآية في سورة البقرة ‏(‏16‏)‏‏.‏

والمراد ب«الآيات» الدلائل، وهي دلائل الدعوة إلى الإسلام، وأعظمها القرآن لما اشتمل عليه من البراهين والحجاج والإعجاز والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بآيات الله‏}‏ باء التعويض‏.‏ وشأنها أن تدخل على ما هو عوض يبذله مالكه لأخذ معوّض يملكه غيره، فجعلت آيات الله كالشيء المملوك لهم لأنها تقررت دلالتها عندهم ثم أعرضوا عنها واستبدلوها باتّباع هواهم‏.‏

والتعبير عن العوض المشترى باسم ثمن الذي شأنه أن يكون مبذولاً لا مقتنى جارٍ على طريق الاستعارة تشبيهاً لمنافع أهوائهم بالثمن المبذول فحصُل من فعل ‏{‏اشتروا‏}‏ ومن لفظ ‏{‏ثمناً‏}‏ استعارتان باعتبارين‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏فصدوا عن سبيله‏}‏ مفرّعة على جملة ‏{‏اشتروا بآيات الله‏}‏ لأنّ إيثارهم البقاء على كفرهم يتسبّب عليه أن يصدّوا الناس عن اتّباع الإسلام، فمثّل حالهم بحال من يصدّ الناس عن السير في طريق تبلّغ إلى المقصود‏.‏

ومفعول ‏{‏صدّوا‏}‏ محذوف لقصد العموم، أي‏:‏ صدّوا كل قاصد‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إنهم ساء ما كانوا يعملون‏}‏ ابتدائية أيضاً، فصلت عن التي قبلها ليظهر استقلالها بالإخبار، وأنّها لا ينبغي أن تعطف في الكلام، إذ العطف يجعل الجملة المعطوفة بمنزلة التكملة للمعطوفة عليها‏.‏

وافتتحت بحرف التأكيد للاهتمام بهذا الذم لهم‏.‏

و ‏{‏ساء‏}‏ من أفعال الذم، من باب بئس، و‏{‏ما كانوا يعملون‏}‏ مخصوص بالذم‏.‏

وعبّر عن عملهم ب ‏{‏كَانوا يعملون‏}‏ للإشارة إلى أنّه دأب لهم ومتكرّر منهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً‏}‏‏.‏

يجوز أن تكون هذه الجملة بدلَ اشتمال من جملة‏:‏ ‏{‏إنهم ساء ما كانوا يعملون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 9‏]‏ لأنّ انتفاء مراعاة الإلّ والذمّة مع المؤمنين ممّا يشتمل عليه سوء عملهم، ويجوز أن تكون استئنافاً ابتُدئ به للاهتمام بمضمون الجملة‏.‏ وقد أفادت معنى أعمّ وأوسع ممّا أفاده قوله‏:‏ ‏{‏وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلّاً ولا ذمة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 8‏]‏ لأنّ إطلاق الحكم عن التقييد بشرط ‏{‏إن يظهروا عليكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 8‏]‏ يَفيد أنّ عدم مراعاتهم حقّ الحلف والعهد خُلُق متأصّل فيهم، سواء كانوا أقويّاء أم مستضعفين، وإنّ ذلك لسوء طويتهم للمؤمنين لأجل إيمانهم‏.‏ والإلّ والذمّة تقدّما قريباً‏.‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏لا يرقبون في مؤمن إلّاً ولا ذمة‏}‏ لمناسبة أنّ إثبات الاعتداء العظيم لهم، نشأ عن الحقد، الشيء الذي أضمروه للمؤمنين، لا لشيء إلاّ لأنّهم مؤمنون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 8‏]‏‏.‏

والقَصر إمّا أن يكون للمبالغة في اعتدائهم، لأنّه اعتداء عظيم باطني على قوم حالفوهم وعاهدوهم، ولم يُلحقوا بهم ضرّ مع تمكّنهم منه، وإمّا أن يكون قصر قلب، أي‏:‏ هم المعتدون لا أنتمْ لأنّهم بَدَأوكم بنقض العهد في قضية خزاعة وبني الدِّيل من بكر بن وائِل ممّا كان سبباً في غزوة الفتح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وءاتوا الزكواة فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين‏}‏‏.‏

تفريع حكم على حكم لتعقيب الشدّة باللين إن هم أقلعوا عن عداوة المسلمين بأن دخلوا في الإسلام لقصد مَحو أثر الحنق عليهم إذا هم أسلموا أعقب به جملة‏:‏ ‏{‏إنهم ساء ما كانوا يعملون إلى قوله المعتدون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 9، 10‏]‏ تنبيهاً لهم على أنّ تداركهم أمرهم هين عليهم، وفرّع على التوبة أنّهم يصيرون إخواناً للمؤمنين‏.‏ ولمّا كان المقام هنا لذكر عداوتهم مع المؤمنين جعلت توبتهم سبباً للأخوّة مع المؤمنين، بخلاف مقام قوله قبله ‏{‏فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ حيث إنّ المعقّب بالتوبة هنالك هو الأمر بقتالهم والترصّد لهم، فناسب أن يفرّع على توبتهم عدم التعرّض لهم بسوء‏.‏ وقد حصل من مجموع الآيتين أنّ توبتهم توجب أمنهم وأخُوّتهم‏.‏

ومن لطائف الآيتين أن جعلت الأخوة مذكورة ثانياً لأنّها أخصّ الفائدتين من توبتهم، فكانت هذه الآية مؤكّدة لأختها في أصل الحكم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فإخوانكم‏}‏ خبر لمحذوف أي‏:‏ فَهم إخوانكم‏.‏ وصيغ هذا الخبر بالجملة الاسمية‏:‏ للدلالة على أنّ إيمانهم يقتضي ثبات الأخوّة ودوامَها، تنبيهاً على أنّهم يعودون كالمؤمنين السابقين من قبل في أصل الأخوّة الدينية‏.‏

والإخوان جمع أخ في الحقيقة والمجاز، وأطلقت الأخوّة هنا على المودّة والصداقة‏.‏

والظرفية في قوله‏:‏ ‏{‏في الدين‏}‏ مجازية‏:‏ تشبيهاً للملابسة القوية بإحاطة الظرف بالمظروف زيادة في الدلالة على التمكّن من الإسلام وأنّه يَجُبُّ ما قبله‏.‏

اعتراض وتذييل، والواو اعتراضية، ومناسبة موقعه عقب قوله‏:‏ ‏{‏اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 9‏]‏ أنّه تضمّن أنّهم لم يهتدوا بآيات الله ونبذوها على علم بصحّتها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏، وباعتبار ما فيه من فرض توبتهم وإيمانهم إذا أقلعوا عن إيثار الفساد على الصلاح، فكان قوله‏:‏ ‏{‏ونفصل الآيات لقوم يعلمون‏}‏ جامعاً للحالين، دالاً على أنّ الآيات المذكورة آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 9‏]‏ آيات واضحة مفصّلة، وأنّ عدم اهتداء هؤلاء بها ليس لنقص فيها ولكنّها إنّما يهتدي بها قوم يعلمون، فإن آمنوا فقد كانوا من قوم يعلمون‏.‏ ويفهم منه أنّهم إن اشتروا بها ثمناً قليلاً فليسوا من قوم يعلمون، فنُزّل علمهم حينئذ منزلة عدمه لانعدام أثر العلم، وهو العمل بالعلم، وفيه نداء عليهم بمساواتهم لغير أهل العقول كقوله‏:‏ ‏{‏وما يعقلها إلا العالمون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 43‏]‏‏.‏

وحُذف مفعول ‏{‏يعلمون‏}‏ لتنزيل الفعل منزلة اللازم إذ أريد به‏:‏ لقوم ذوي علم وعقل‏.‏

وعطف هذا التذييل على جملة‏:‏ ‏{‏فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين‏}‏ لأنّه به أعلق، لأنّهم إن تابوا فقد صاروا إخوانا للمسلمين، فصاروا من قوم يعلمون، إذ ساووا المسلمين في الاهتداء بالآيات المفصّلة‏.‏

ومعنى التفصيل تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين‏}‏ من سورة الأنعام ‏(‏55‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

لمّا استوفى البيان لأصناف المشركين الذين أمر الله بالبراءة من عهدهم بقوله‏:‏ ‏{‏أن الله بريء من المشركين إلى قوله ‏{‏وبشر الذين كفروا بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 3‏]‏ وإنّما كان ذلك لإبطانهم الغدر، والذين أمر بإتمام عهدهم إلى مدّتهم ما استقاموا على العهد بقوله‏:‏ ‏{‏إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 4‏]‏ الآيات، والذين يستجيبون عَطَف على أولئك بيان الذين يعلنون بنكث العهد، ويعلنون بما يسخطُ المسلمين من قولهم، وهذا حال مضادّ لحال قوله‏:‏ ‏{‏وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 8‏]‏‏.‏

والنكث تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون‏}‏ في الأعراف ‏(‏135‏)‏‏.‏

وعبَر عن نقض العهد بنكث الأيمان تشنيعاً للنكث، لأنّ العهد كان يقارنه اليمين على الوفاء ولذلك سمّي العهد حلفا‏.‏

وزيد قوله‏:‏ من بعد عهدهم‏}‏ زيادة في تسجيل شناعة نكثهم‏:‏ بتذكير أنّه غدْر لعهد، وحنث باليمين‏.‏

والطعن حقيقته خرق الجسم بشيء محددٍ كالرمح، ويستعمل مجازاً بمعنى الثلب‏.‏ والنسبة إلى النقص، بتشبيه عِرض المرء، الذي كان ملتئما غير منقوص، بالجسد السليم‏.‏ فإذا أظهرت نقائصه بالثلب والشتم شُبّه بالجِلد الذي أفسِد التحامُه‏.‏

والأمر، هنا‏:‏ للوجوب، وهي حالة من أحوال الإذن المتقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ ففي هذه الحالة يجب قتالهم ذبّاً عن حرمة الدين، وقمعا لشرّهم من قبل أن يتمرّدوا عليه‏.‏

و ‏{‏أئِمّة‏}‏ جمع إمام، وهو ما يجعل قدوة في عمل يُعمل على مثاله، أو على مثال عمله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ونجعلهم أئمة‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 5‏]‏ أي مقتدى بهم، وقال لبيد‏:‏

ولكلّ قوم سنة وإمامها ***

والإمام المثال الذي يصنع على شكله، أو قدره، مصنوع، فأئمّة الكفر، هنا‏:‏ الذين بلغوا الغاية فيه، بحيث صاروا قدوة لأهل الكفر‏.‏

والمراد بأئِمّة الكفر‏:‏ المشركون الذين نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، فوضع هذا الاسم موضع الضمير حين لم يُقل‏:‏ فقاتلوهم، لزيادة التشنيع عليهم ببلوغهم هذه المنزلة من الكفر، وهي أنّهم قدوة لغيرهم، لأنّ الذين أضمروا النكث يبقون متردّدين بإظهاره، فإذا ابتدأ بعضهم بإظهار النقض اقتدى بهم الباقون، فكان الناقضون أئِمّة للباقين‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إنهم لا أيمان لهم‏}‏ تعليل لقتالهم بأنّهم استحقّوه لأجل استخفافهم بالأيمان التي حلفوها على السلم، فغدروا، وفيه بيان للمسلمين كيلا يشرعوا في قتالهم غير مطّلعين على حكمة الأمر به، فيكون قتالهم لمجرّد الامتثال لأمر الله، فلا يكونُ لهم من الغيظ على المشركين ما يشحّذ شدّتهم عليهم‏.‏

ونفي الأيمان لَهم‏:‏ نفي للماهية الحقّ لليمين، وهي قصد تعظيمه والوفاء به، فلمّا لم يوفوا بأيمانهم، نزلت أيمانهم منزلة العدم لفقدان أخصّ أخواصّها وهو العمل بما اقتضته‏.‏

وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ورويس عن يعقوب‏.‏

‏{‏أيّمة‏}‏ بتسهيل الهمزة الثانية بين الهمزة والياء‏.‏ وقرأ البقية‏:‏ بتحقيق الهمزتين‏.‏ وقرأ هشام عن عامر، وأبو جعفر‏:‏ بمَدّ بين الهمزتين‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏لا أيمان لهم‏}‏ بفتح همزة ‏{‏أيمان‏}‏ على أنّه جمع يمين‏.‏ وقرأه ابن عامر بكسر الهمزة، أي ليسوا بمؤمنين، ومن لا إيمان له لا عهد له لانتفاء الوازع‏.‏

وعطف ‏{‏وطعنوا في دينكم‏}‏ عطف قسيم على قسيمه، فالواو فيه بمعنى ‏(‏أو‏)‏‏.‏ فإنّه إذا حصل أحد هذين الفعلين‏:‏ الذين هما نكث الأيمان، والطعن في الدين، كان حصول أحدهما موجباً لقتالهم، أي دون مصالحة، ولا عهد، ولا هُدنة بعد ذلك‏.‏

وذكر طعنهم في دين المسلمين ينبئ بأنّ ذلك الطعن كان من دأبهم في مدّة المعاهدة، فأريد صدّهم عن العَود إليه‏.‏ ولم أقف على أنّه كان مشروطاً على المشركين في عقود المصالحة والمعاهدة مع المسلمين أن لا يطعنوا في الإسلام، في غير هذه الآية، فكانَ هذا شرطاً عليهم من بعد، لأنّ المسلمين أصبحوا في قوة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فقاتلوا أئمة الكفر‏}‏ أمر للوجوب‏.‏

وجملة ‏{‏لعلهم ينتهون‏}‏ يجوز أن تكون تعليلاً للجملة ‏{‏فقاتلوا أئمة الكفر‏}‏ أي قتالهم لرجاء أن ينتهوا، وظاهر أنّ القتال يُفني كثيراً منهم، فالانتهاء المرجو انتهاء الباقين أحياء بعد أن تضع الحرب أوزارها‏.‏

ولم يذكر متعلِّق فعل ‏{‏ينتهون‏}‏ ولا يحتمل أن يكون الانتهاء عن نكث العهد، لأنّ عهدهم لا يقبل بعدَ أن نكثوا لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إنهم لا أيمان لهم‏}‏، ولا أن يكون الانتهاء عن الطعن في الدين، لأنّه إن كان طعنهم في ديننا حاصلاً في مدّة قتالهم فلا جدوى لرجاء انتهائهم عنه، وإن كان بعدَ أن تضع الحرب أوزارها فإنّه لا يستقيم إذ لا غاية لتنهية القتل بين المسلمين وبينهم، فتعيّن أنّ المراد‏:‏ لعلهم ينتهون عن الكفر‏.‏

ويجوز أن تكون الجملة استئنافاً ابتدائياً لا اتّصال لها بجملة ‏{‏وإن نكثوا أيمانهم‏}‏ الآية، بل ناشئة عن قوله‏:‏ ‏{‏فإن تابوا وأقاموا الصلاة إلى قوله ‏{‏أئمة الكفر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5 12‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ المرجو أنّهم ينتهون عن الشرك ويسلمون، وقد تحقّق ذلك فإنّ هذه الآية نزلت بعد فتح مكة، وبعدَ حُنين، ولم يقع نكث بعد ذلك، ودخل المشركون في الإسلام أفواجاً في سنة الوفود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

تحذير من التواني في قتالهم عدا ما استثني منهم بعد الأمر بقتلهم، وأسرهم، وحصارهم، وسدّ مسالك النجدة في وجوههم، بقوله‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم إلى قوله كل مرصد‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وبعد أن أثبتت لهم ثمانية خلال تغري بعدم الهوادة في قتالهم، وهي قوله‏:‏ ‏{‏كيف يكون للمشركين عهد‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 7‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كيف وإن يظهروا عليكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 8‏]‏ وقولُه ‏{‏يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 8‏]‏ وقولُه‏:‏ ‏{‏وأكثرهم فاسقون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 8‏]‏ وقولُه‏:‏ ‏{‏اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 9‏]‏ وقولُه‏:‏ ‏{‏لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 10‏]‏ وقولُه‏:‏ ‏{‏وأولئك هم المعتدون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 10‏]‏ وقولُه‏:‏ ‏{‏إنهم لا أيمان لهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 12‏]‏‏.‏

فكانت جملة ‏{‏ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم‏}‏ تحذيراً من التراخي في مبادرتهم بالقتال‏.‏

ولفظ ‏{‏ألا‏}‏ يحتمل أن يكون مجموع حرفين‏:‏ هما همزة الاستفهام، و‏(‏لا‏)‏ النافيةُ، ويحتمل أن يكون حرفاً واحداً للتحْضيض، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا تحبون أن يغفر الله لكم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 22‏]‏‏.‏ فعلى الاحتمال الأول يجوز أن يكون الاستفهام إنكارياً، على انتفاء مقاتلة المشركين في المستقبل، وهو ما ذهب إليه البيضاوي، فيكون دفعاً لأن يَتوهَّم المسلمون حُرمة لتلك العهود‏.‏ ويجوز أن يكون الاستفهام تقريرياً، وهو ظاهر ما حمله عليه صاحب «الكشّاف»، تقريراً على النفي تنزيلاً لهم منزلة من ترك القتال فاستوجب طلب إقراره بتركه، قال في «الكشاف»‏:‏ ومعناه الحضّ على القتال على سبيل المبالغة، وفي «مغني اللبيب» أن ‏{‏ألا التي للاستفهام عن النفي تختصّ بالدخول على الجملة الاسمية، وسلّمه شارحاه، ولا يخفى أنّ كلام الكشاف‏}‏ ينادي على خلافه‏.‏

وعلى الاحتمال الثاني أن يكون ‏{‏ألا‏}‏ حرفاً واحداً للتحْضيض فهو تحْضيض على القتال‏.‏ وجَعَل في «المغني» هذه الآية مثالاً لهذا الاستعمال على طريقة المبالغة في التحذير ولعلّ موجب هذا التفنّن في التحذير من التهاون بقتالهم مع بيان استحقاقهم إياه‏:‏ أن كثيراً من المسلمين كانوا قد فرحوا بالنصر يوم فتح مكة ومالوا إلى اجتناء ثمرة السلم، بالإقبال على إصلاح أحوالهم وأموالهم، فلذلك لمّا أمروا بقتال هؤلاء المشركين كانوا مظنّة التثاقل عنه خشية الهزيمة، بعد أن فازوا بسُمعة النصر، وفي قوله عقبه ‏{‏أتخشونهم‏}‏ ما يزيد هذا وضوحاً‏.‏

أمّا نكثهم أيمانهم فظاهر مما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين عاهدتم من المشركين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 4‏]‏ وقوله ‏{‏إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 4‏]‏ الآية‏.‏ وذلك نكثهم عهد الحديبية إذ أعانوا بني بكر على خزاعة وكانت خزاعة من جانب عهد المسلمين كما تقدّم‏.‏

وأمّا همّهم بإخراج الرسول فظاهره أنّه همٌّ حصل مع نكث أيمانهم وأن المراد إخراج الرسول من المدينة، أي نفيه عنها لأن إخراجه من مكّة أمر قد مضى منذ سنين، ولأنّ إلجاءه إلى القتال لا يعرف إطلاق الإخراج عليه فالظاهر أنّ همّهم هذا أضمروه في أنفسهم وعلمه الله تعالى ونبّه المسلمين إليه‏.‏

وهو أنّهم لمّا نكثوا العهد طمعوا في إعادة القتال وتوهّموا أنفسهم منصورين وأنّهم إن انتصروا أخرجوا الرسول عليه الصلاة والسلام من المدينة‏.‏

و ‏(‏الهم‏)‏ هو العزم على فعل شيء، سواء فعله أم انصرف عنه‏.‏ ومؤاخذتهم في هذه الآية على مجرّد الهمّ بإخراج الرسول تدلّ على أنّهم لم يخرجوه، وإلاّ لكان الأجدر أن ينعى عليهم الإخراج لا الهمّ به، كما في قوله‏:‏ ‏{‏إذ أخرجه الذين كفروا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 40‏]‏ وتدلّ على أنّهم لم يرجعوا عمّا همّوا به إلاّ لِمَا حيل بينهم وبين تنفيذه، فعن الحسن‏:‏ همّوا بإخراج الرسول من المدينة حين غزوْه في أحد وحين غزوا غزوة الأحزاب، أي فكفاه الله سوء ما همّوا به، ولا يجوز أن يكون المراد إخراجه من مكة للهجرة لأنّ ذلك قد حدث قبل انعقاد العهد بينهم وبين المسلمين في الحديبية، فالوجه عندي‏:‏ أنّ المعنيَّ بالذين هَمّوا بإخراج الرسول قبائل كانوا معاهدين للمسلمين، فنكثوا العهد سنة ثمان، يوم فتح مكة، وهمّوا بنجدة أهل مكة يوم الفتح، والغدر بالنَّبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين، وأن يأتوهم وهم غارون، فيكونوا هم وقريش ألباً واحداً على المسلمين، فيُخرجون الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين من مكة، ولكنّ الله صرفهم عن ذلك بعد أن همّوا، وفضح دخيلتهم للنبيء صلى الله عليه وسلم وأمره بقتالهم ونبذِ عهدهم في سنة تسع، ولا ندري أقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية أم كان إعلان الأمر بقتالهم ‏(‏وهم يعلمون أنهم المراد بهذا الأمر‏)‏ سبباً في إسلامهم وتوبة الله عليهم، تحقيقاً للرجاء الذي في قوله‏:‏ ‏{‏لعلهم ينتهون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 12‏]‏ ولعل بعض هؤلاء كانوا قد أعلنوا الحرب على المسلمين يوم الفتح ناكثين العهد، وأمدّوا قريشاً بالعدد، فلمّا لم تنشب حرب بين المسلمين والمشركين يومئذٍ أيسوا من نصرتهم فرجعوا إلى ديارهم، وأغضى النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، فلم يؤاخذهم بغدْرهم، وبقي على مراعاة ذلك العهد، فاستمرّ إلى وقت نزول هذه الآية، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏وهم بدوءكم أول مرة‏}‏ أي كانوا البادئين بالنكث، وذلك أنّ قريشاً انتصروا لأحلافهم من كنانة، فقاتلوا خزاعة أحلاف المسلمين‏.‏

و ‏{‏أول مرة‏}‏ نَصْب على المصدرية‏.‏ وإضافة ‏{‏أول‏}‏ إلى ‏{‏مرة‏}‏ من إضافة الصفة إلى الموصوف‏.‏ والتقدير‏:‏ مرة أولى والمرّة الوَحدة من حدث يحدث، فمعنى ‏{‏بدءوكم أول مرة‏}‏ بدأوكم أوّل بدء بالنكث، أي بَدْءا أولَ؛ فالمَرّة اسم مبهم للوحدة من فعل ما، والأغلب أن يفسر إبهامه بالمقام، كما هنا، وقد يفسّره اللفظ‏.‏

و ‏{‏أوّل‏}‏ اسم تفضيل جاء بصيغة التذكير، وإن كان موصوفه مؤنّثاً لفظاً، لأن اسم التفضيل إذا أضيف إلى نكرة يلازم الإفراد والتذكير بدلالة المضاف إليه ويقال‏:‏ ثاني مرة وثالث مرّة‏.‏

والمقصود من هذا الكلام تهديدهم على النكث الذي أضمروه، وأنّه لا تسامح فيه‏.‏

وعلى كلّ فالمقصود من إخراج الرسول عليه الصلاة والسلام‏:‏ إمّا إخراجه من مكة منهزماً بعدَ أن دخلها ظافراً، وإمّا إخراجه من المدينة بعد أن رجع إليها عقب الفتح، بأن يكونوا قد همّوا بغزو المدينة وإخراج الرسول والمسلمين منها وتشتيت جامعة الإسلام‏.‏

وجملة ‏{‏أتخشونهم‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏ألا تقاتلون‏}‏ فالاستفهام فيها إنكار أو تقرير على سبب التردّد في قتالهم، فالتقدير‏:‏ أينتفي قتالكم إيّاهم لَخشيكم إياهم، وهذا زيادة في التحريض على قتالهم‏.‏

وفُرّع على هذا التقرير جملة ‏{‏فالله أحق أن تخشوه‏}‏ أي فالله الذي أمركم بقتالهم أحقّ أن تخشوه إذا خطر في نفوسكم خاطر عدم الامتثال لأمره، إن كنتم مؤمنين، لأنّ الإيمان يقتضي الخشية من الله وعدم التردّد في نجاح الامتثال له‏.‏

وجيء بالشرط المتعلّق بالمستقبل، مع أنّه لا شكّ فيه، لقصد إثارة همّتهم الدينية فيبرهنوا على أنّهم مؤمنون حقّا يقدمون خشية الله على خشية الناس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏

‏{‏قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ‏(‏14‏)‏ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏قاتلوهم يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏{‏وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ‏}‏‏.‏

استئناف ابتدائي للعود من غرض التحذير، إلى صريح الأمر بقتالهم الذي في قوله‏:‏ ‏{‏فقاتلوا أئمة الكفر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 12‏]‏ وشأن مثل هذا العود في الكلام أن يكون باستئناف كما وقع هنا‏.‏

وجُزم ‏{‏يعذبهم‏}‏ وما عطف عليه في جواب الأمر‏.‏ وفي جعله جواباً وجزاءً أنّ الله ضمن للمسلمين من تلك المقاتلة خمس فوائد تنحلّ إلى اثنتي عشرة إذ تشتمل كل فائدة منها على كرامة للمؤمنين وإهانة لهؤلاء المشركين وروعي في كلّ فائدة منها الغرض الأهمّ فصرح به وجعل ما عداه حاصلاً بطريق الكناية‏.‏

الفائدة الأولى تعذيب المشركين بأيدي المسلمين وهذه إهانة للمشركين وكرامة للمسلمين‏.‏

الثانية‏:‏ خزي المشركين وهو يستلزم عِزّة المسلمين‏.‏

الثالثة‏:‏ نصر المسلمين، وهذه كرامة صريحة لهم وتستلزم هزيمة المشركين وهي إهانة لهم‏.‏

الرابعة‏:‏ شفاء صدور فريق من المؤمنين، وهذه صريحة في شفاء صدور طائفة من المؤمنين وهم خزاعة، وتستلزم شفاء صدور المؤمنين كلّهم، وتستلزم حرج صدور أعدائهم فهذه ثلاث فوائد في فائدة‏.‏

الخامسة‏:‏ إذهاب غيظ قلوب فريق من المؤمنين أو المؤمنين كلّهم، وهذه تستلزم ذهاب غيظ بقية المؤمنين الذي تحملوه من إغاظة أحلامهم وتستلزم غيظ قلوب أعدائهم، فهذه ثلاث فوائد في فائدة‏.‏

والتعذيب تعذيب القتل والجراحة‏.‏ وأسند التعذيب إلى الله وجعلت أيدي المسلمين آلة له تشريفاً للمسلمين‏.‏

والإخزاء‏:‏ الإذلال، وتقدّم في البقرة‏.‏ وهو هنا الإذلال بالأسر‏.‏

والنصرُ حصول عاقبة القتال المرجوّة‏.‏ وتقدّم في أول البقرة‏.‏

والشفاء‏:‏ زوال المرض ومعالجة زواله‏.‏ أطلق هنا استعارة لإزالة ما في النفوس من تعب الغيظ والحقد، كما استعير ضدّه وهو المرض لما في النفوس من الخواطر الفاسدة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في قلوبهم مرض‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 10‏]‏ قال قيس بن زهير‏:‏

شَفيت النفسَ من حَمَل بننِ يَدّر *** وسيفي من حُذيفة قد شَفاني

وإضافة ال ‏{‏صدور‏}‏ إلى ‏{‏قوم مؤمنين‏}‏ دون ضمير المخاطبين يدلّ على أنّ الذين يشفي الله صدورهم بنصر المؤمنين طائفةٌ من المؤمنين المخاطبين بالقتال، وهم أقوام كانت في قلوبهم إحن على بعض المشركين الذين آذوهم وأعانوا عليهم، ولكنّهم كانوا محافظين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلا يستطيعون مجازاتهم على سوء صنيعهم، وكانوا يودّون أن يؤذَن لهم بقتالهم، فلمّا أمر الله بنقض عهود المشركين سُرّوا بذلك وفرحوا، فهؤلاء فريق تغاير حالته حالة الفريق المخاطبين بالتحريض على القتال والتحذيرِ من التهاون فيه‏.‏ فعن مجاهد، والسدّي أنّ القوم المؤمنين هم خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم وكانت نفوس خزاعة إحن على بني بكر بن كنانة، الذين اعتدوا عليهم بالقتال، وفي ذكر هذا الفريق زيادة تحريض على القتال بزيادة ذكر فوائده، وبمقارنة حال الراغبين فيه بحال المحرضين عليه، الملحوح عليهم الأمر بالقتال‏.‏

وعَطْفُ فعل ‏{‏ويذهب غيظ قلوبهم‏}‏ على فعل ‏{‏ويشف صدور قوم مؤمنين‏}‏، يؤذن باختلاف المعطوف والمعطوف عليه، ويكفي في الاختلاف بينهما اختلاف المفهومين والحالين، فيكون ذهاب غيظ القلوب مساوياً لشفاء الصدور، فيحصل تأكيد الجملة الأولى بالجملة الثانية، مع بيان متعلّق الشفاء ويجوز أن يكون الاختلاف بِالمَاصْدق مع اختلاف المفهوم، فيكون المراد بشفاء الصدور ما يحصل من المسرّة والانشراح بالنصر، والمراد بذهاب الغيظ استراحتهم من تعب الغيظ، وتحرّق الحقد‏.‏ وضمير قلوبهم عائد إلى قوم مؤمنين فهم موعودون بالأمرين‏:‏ شفاء صدورهم من عدوهم، وذهاب غيظ قلوبهم على نكث الذين نكثوا عهدهم‏.‏

والغيظ‏:‏ الغضب المشوب بإرادة الانتقام، وتقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عضوا عليكم الأنامل من الغيظ‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏119‏)‏‏.‏

جملة ابتدائية مستأنفة، لأنّه ابتداء كلام ليس ممّا يترتب على الأمر بالقتال، بل لذكر من لم يُقتَلوا، ولذلك جاء الفعل فيها مرفوعاً، فدلّ هذا النظم على أنّها راجعة إلى قوم آخرين، وهم المشركون الذين خانوا وغدروا، ولم يُقتلوا، بل أسلموا من قبل هذا الأمر أو بعده‏.‏ وتوبة الله عليهم‏:‏ هي قبول إسلامهم أو دخولهم فيه، وفي هذا إعذار وإمهال لمن تأخّر‏.‏ وإنّما لم تفصل الجملة‏:‏ للإشارة إلى أنّ مضمونها من بقية أحوال المشركين، فناسب انتظامها مع ما قبلها‏.‏ فقد تاب الله على أبي سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وسليم بن أبي عمرو ‏(‏ذكر هذا الثالث القرطبي ولم أقف على اسمه في الصحابة‏)‏‏.‏

والتذييل بجُملة ‏{‏والله عليم حكيم‏}‏ لإفادة أنّ الله يعامل الناس بما يعلم من نياتهم، وأنّه حكيم لا يأمر إلا بما فيه تحقيق الحكمة، فوجب على الناس امتثال أوامره، وأنّه يقبل توبة من تاب إليه تكثيراً للصلاح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏أم‏}‏ منقطعة لإفادة الإضراب عن غرض من الكلام للانتقال إلى غرض آخر‏.‏

والكلام بعد ‏{‏أم‏}‏ المنقطعة له حكم الاستفهام دائماً، فقوله‏:‏ ‏{‏حسبتم‏}‏ في قوة ‏(‏أحسبتم‏)‏ والاستفهام المقدّر إنكاري‏.‏

والخطاب للمسلمين، على تفاوت مراتبهم في مدّة إسلامهم، فشمل المنافقين لأنّهم أظهروا الإسلام‏.‏

وحسبتم‏:‏ ظننتم‏.‏ ومصدر حسب، بمعنى ظنّ الحِسبان بكسر الحاء فأمّا مصدر حسب بمعنى أحصى العدد فهو بضم الحاء‏.‏

والترك افتقاد الشيء وتعهّدِه، أي‏:‏ أن يترككم الله، فحُذف فاعل الترك لظهوره‏.‏

ولا بدّ لفعل الترك من تعليقه بمتعلّق‏:‏ من حال أو مجرور، يدلّ على الحالة التي يفارق فيها التاركُ متروكه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 2‏]‏ ومثل قول عنترة‏:‏

فتركتُه جَزَر السباع ينُشنَه ***

وقول كبشة بنت معد يكرب، على لسان شقيقها عبد الله حين قتلته بنو مازن بن زبيد في بلد صَعْدة من بلاد اليمن‏:‏

وأُتْرَك في بيتتٍ بصَعْدة مُظْلِم ***

وحذف متعلِّق ‏{‏تتركوا‏}‏ في الآية‏:‏ لدلالة السَياق عليه، أي أن تتركوا دون جهاد، أي أن تتركوا في دعة بعد فتح مكة‏.‏

والمعنى‏:‏ كيف تحسبون أن تتركوا، أي لا تحسبوا أن تتركوا دون جهاد لأعداء الله ورسوله‏.‏

وجملة ‏{‏ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم‏}‏ إلخ في موضع الحال من ضمير ‏{‏تتركوا‏}‏ أي لا تظنّوا أن تتركوا في حال عدم تعلّق علم الله بوقوع ابتدار المجاهدين للجهاد، وحصول تثاقل من تثاقلوا، وحصول ترك الجهاد من التاركين‏.‏

و ‏{‏لمّا‏}‏ حرف للنفي، وهي أخت ‏(‏لم‏)‏‏.‏ وقد تقدّم بيانها، والفرق بينها وبين ‏(‏لم‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين‏}‏ في سورة آل عمران‏}‏ ‏(‏142‏)‏‏.‏

ومعنى علم الله بالذين جاهدوا‏:‏ علمه بوقوع ذلك منهم وحصول امتثالهم، وهو من تعلّق العلم الإلهي بالأمور الواقعة، وهو أخصّ من علمه تعالى الأزلي بأنّ الشيء يقع أو لا يقع، ويجدر أن يوصف بالتعلّق التنجيزي وقد تقدّم شيء من ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏142‏)‏‏.‏

و ‏(‏الوليجة‏)‏ فعيلة بمعنى مفعولة، أي الدخيلة، وهي الفَعلة التي يخفيها فاعلها، فكأنّه يُولجها، أي يُدخلها في مكمن بحيث لا تظهر، والمراد بها هنا‏:‏ ما يشمل الخديعة وإغراء العدوّ بالمسلمين، وما يشمل اتّخاذ أولياء من أعداء الإسلام يُخلص إليهم ويفضَى إليهم بسر المسلمين، لأنّ تنكير وليجة‏}‏ في سياق النفي يعمّ سائر أفرادها‏.‏

و ‏{‏من دون الله‏}‏ متعلّق ب ‏{‏وليجة‏}‏ في موضع الحال المبيّنة‏.‏

و ‏{‏من‏}‏ ابتدائية، أي وليجة كائِنة في حالة تشبيه المكان الذي هو مبْدأ للبعد من الله ورسوله والمؤمنين‏.‏

وجملة ‏{‏والله خبير بما تعملون‏}‏ تذييل لإنكار ذلك الحسبان، أي‏:‏ لا تحسبوا ذلك مع علمكم بأنّ الله خبير بكلّ ما تعملونه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

هذا ابتداء غرض من أغراض معاملة المشركين، وهو منع المشركين من دخول المسجد الحرام في العام القابل، وهو مرتبط بما تضمّنته البراءة في قوله‏:‏ ‏{‏براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 1‏]‏ ولِمَا اتّصَل بتلك الآية من بيان النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرسل به مع أبي بكر الصديق‏:‏ أنْ لا يَحُج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عُريان‏.‏ وهو توطئة لقوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وتركيب ‏(‏ما كان لهم أن يفعلوا‏)‏ يدلّ على أنّهم بُعداء من ذلك، كما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوءة‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏79‏)‏، أي ليسوا بأهل لأن يعمروا مساجد الله بما تعمر به من العبادات‏.‏

ومَساجد الله‏}‏ مواضع عبادته بالسجود والركوع‏:‏ المراد المسجدُ الحرام وما يتبعه من المسعى، وعرفةُ، والمشعرُ الحرام، والجَمَرات، والمَنْحر من منى‏.‏

وعمْر المساجد‏:‏ العبادةُ فيها لأنّها إنّما وضعت للعبادة، فعَمْرها بمن يحلّ فيها من المتعبّدين، ومن ذلك اشتقّت العُمرة، والمعنى‏:‏ ما يحقّ للمشركين أن يعبدوا الله في مساجد الله‏.‏ وإناطة هذا النفي بهم بوصف كونهم مشركين‏:‏ إيماء إلى أنّ الشرك موجب لحرمانهم من عمارة مساجد الله‏.‏

وقد جاء الحال في قوله‏:‏ ‏{‏شاهدين على أنفسهم بالكفر‏}‏ مبيِّناً لسبب براءتهم من أن يعمروا مساجد الله، وهو حال من ضمير ‏{‏يعمروا‏}‏ فبين عامل الضمير وهو ‏{‏يعمروا‏}‏ الداخلُ في حكم الانتفاء، أي‏:‏ انتفى تأهّلهم لأن يعمروا مساجد الله بحال شهادتهم على أنفسهم بالكفر، فكان لهذه الحال مزيد اختصاص بهذا الحرمان الخاص من عمارة مساجد الله، وهو الحرمان الذي لا استحقاق بعده‏.‏

والمراد بالكفر‏:‏ الكفر بالله، أي بوحدانيته، فالكفر مرادف للشرك، فالكفر في حدّ ذاته موجب للحرمان من عمارة أصحابِه مساجد الله، لأنّها مساجد الله فلا حقّ لغير الله فيها، ثم هي قد أقيمت لعبادة الله لا لغيره، وأقام إبراهيم عليه السلام أوّل مسجد وهو الكعبة عنواناً على التوحيد، وإعلاناً به، كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏96‏)‏، فهذه أوّل درجة من الحرمان‏.‏ ثم كونُ كفرهم حاصلاً باعترافهم به موجبٌ لانتفاء أقلّ حظ من هذه العمارة، وللبراءة من استحقاقها، وهذه درجة ثانية من الحرمان‏.‏

وشهادتهم على أنفسهم بالكفر حاصلة في كثير من أقوالهم وأعمالهم، بحيث لا يستطيعون إنكار ذلك، مثل قولهم في التلبية لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، ومثل سجودهم للأصنام، وطوافهم بها، ووضعهم إيّاها في جوف الكعبة وحولَها وعلى سطحها‏.‏

وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب‏:‏ بإفراد مسجد الله‏}‏ أي المسجد الحرام وهو المقصود، أو التعريف بالإضافة للجنس‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏مسَاجد الله‏}‏، فيعمّ المسجد الحرام وما عددناه معه آنفاً‏.‏

وجملة ‏{‏أولئك حبطت أعمالهم‏}‏ ابتداءُ ذم لهم، وجيء باسم الإشارة لأنّهم قد تميّزوا بوصف الشهادة على أنفسهم بالكفر كما في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏هدى للمتقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ الآية‏.‏

و ‏{‏حبطت‏}‏ بطلت، وقد تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏217‏)‏‏.‏

وتقديم في النار‏}‏ على ‏{‏خالدون‏}‏ للرعاية على الفاصلة ويحصل منه تعجيل المساءة للكفار إذا سمعوه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

موقع جملة ‏{‏إنما يعمر مساجد الله‏}‏ الاستئناف البياني، لأنّ جملة‏:‏ ‏{‏ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 17‏]‏ لمّا اقتضت إقصَاء المشركين عن العبادة في المساجد كانت بحيث تثير سؤالاً في نفوس السامعين أن يتطلّبوا من هم الأحقّاء بأن يعمروا المساجد، فكانت هذه الجملة مفيدة جواب هذا السائِل‏.‏

ومجيء صيغة القصر فيها مؤذن بأنّ المقصود إقصاء فِرق أخرى عن أن يعمروا مساجد الله، غير المشركين الذين كان إقصاؤهم بالصريح، فتعيّن أن يكون المراد من الموصول وصلته خصوص المسلمين، لأنّ مجموع الصفات المذكورة في الصلة لا يثبت لغيرهم، فاليهود والنصارى آمنوا بالله واليوم الآخر لكنّهم لم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة، لأنّ المقصود بالصلاة والزكاة العبادتان المعهودتان بهذين الاسمين والمفروضتان في الإسلام، ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 43، 44‏]‏ كناية عن أن لم يكونوا مسلمين‏.‏

واستغني عن ذكر الإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم بما يدلّ عليه من آثار شريعته‏:‏ وهو الإيمان باليوم الآخر، وإقامُ الصلاة‏:‏ وإيتاء الزكاة‏.‏

وقصر خشيتهم على التعلّق بجانب الله تعالى بصيغة القصر ليس المراد منه أنّهم لا يخافون شيئاً غير الله فإنّهم قد يخافون الأسَد ويخافون العدوّ، ولكن معناه إذا تردّد الحال بين خشيتهم الله وخشيتهم غيره قدّموا خشية الله على خشية غيره كقوله آنفاً ‏{‏أتخشونهم فاللَّهُ أحق أن تخشوه‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 13‏]‏، فالقصر إضافي باعتبار تعارض خشيتين‏.‏

وهذا من خصائص المؤمنين‏:‏ فأمّا المشركون فهم يخشون شركاءهم وينتهكون حرمات الله لإرضاء شركائهم، وأمّا أهل الكتاب فيخشون الناس ويعصون الله بتحريف كَلمِه ومجاراة أهواء العامّة، وقد ذكَّرهم الله بقوله‏:‏ ‏{‏فلا تخشوا الناس واخشون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وفرّع على وصف المسلمين بتلك الصفات رجاء أن يكونوا من المهتدين، أي من الفريق الموصوف بالمهتدين وهو الفريق الذي الاهتداء خُلق لهم في هذه الأعمال وفي غيرها‏.‏ ووجه هذا الرجاء أنّهم لما أتوا بما هو اهتداء لا محالة قوي الأمل في أن يستقرّوا على ذلك ويصير خُلُقا لهم فيكونوا من أهله، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏أن يكونوا من المهتدين‏}‏ ولم يقل أن يكونوا مهتدين‏.‏

وفي هذا حثّ على الاستزادة من هذا الاهتداء وتحذير من الغرور والاعتماد على بعض العمل الصالح باعتقاد أنّ بعض الأعمال يغني عن بقيتها‏.‏

والتعبير عنهم باسم الإشارة للتنبيه على أنّهم استحقّوا هذا الأمل فيهم بسبب تلك الأعمال التي عُدّت لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

ظاهر هذه الآية يقتضي أنّها خطاب لقوم سَوَّوا بين سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام، وبين الجهاد والهجرة، في أنّ كلّ ذلك من عمل البرّ، فتؤذن بأنّها خطاب لقوم مؤمنين قعدوا عن الهجرة والجهاد، بعلّة اجتزائهم بالسقاية والعمارة‏.‏ ومناسبتها للآيات التي قبلها‏:‏ أنّه لمّا وقع الكلام على أنّ المؤمنين هم الأحقّاء بعمارة المسجد الحرام من المشركين دلّ ذلك الكلام على أنّ المسجد الحرام لا يحقّ لغير المسلم أن يباشر فيه عملاً من الأعمال الخاصّة به، فكان ذلك مثار ظنّ بأنّ القيام بشعائر المسجد الحرام مساوٍ للقيام بأفضل أعمال الإسلام‏.‏

وأحسن ما روي في سبب نزول هذه الآية‏:‏ ما رواه الطبري، والواحدي، عن النعمان بن بشير، قال‏:‏ كنتُ عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم «ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلاَّ أنْ أسقي الحاج»؛ وقال آخر «بل عمارة المسجد الحرام» وقال آخر «بل الجهاد في سبيل الله خير ممّا قلتم» فزجرهم عمر بن الخطاب وقال‏:‏ «لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صُلِّيَتْ الجمعة دخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفيتُه فيما اختلفتم فيه» قال‏:‏ فأنزل الله تعالى ‏{‏أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏‏.‏

وقد روي أنّه سرى هذا التوهّم إلى بعض المسلمين، فروي أنّ العباس رام أن يقيم بمكة ويترك الهجرة لأجل الشغل بسقاية الحاجّ والزائِر؛ وأنّ عثمان بنَ طلحة رام مثل ذلك، للقيام بحجابة البيت‏.‏ وروى الطبري، والواحدي‏:‏ أن مماراة جرت بين العباس وعلي بن أبي طالب ببدر، وأن علياً عَيَّر العباس بالكفر وقطيعة الرحم، فقال العباس‏:‏ «ما لكم لا تذكرون محاسننا إنّا لنَعْمُر مسجد الله ونحجب الكعبة ونسقي الحاج» فأنزل الله ‏{‏أجعلتم سقاية الحاج‏}‏ الآية‏.‏

والاستفهام للإنكار‏.‏

و ‏(‏السقاية‏)‏ صيغة للصناعة، أي صناعة السقي، وهي السقي من ماء زمزم، ولذلك أضيفت السقاية إلى الحاج‏.‏

وكذلك ‏(‏العمارة‏)‏ صناعة التعمير، أي القيام على تعمير شيء، بالإصلاح والحراسة ونحو ذلك، وهي، هنا‏:‏ غير ما في قوله‏:‏ ‏{‏ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 17‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنما يعمر مساجد الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 18‏]‏ وأضيفت إلى المسجد الحرام لأنّها عمل في ذات المسجد‏.‏

وتعريف الحاج تعريف الجنس‏.‏

وقد كانت سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام من أعظم مناصب قريش في الجاهلية، والمناصب عشرة، وتسمّى المآثر فكانت السقاية لبني هاشم بن عبد مناف بن قصي وجاء الإسلام وهي للعباس بن عبد المطلب، وكانت عمارة المسجد، وهي السدانة، وتسمّى الحجابة، لبني عبد الدار بن قصي وجاء الإسلام وهي لعثمان بن طلحة‏.‏

وكانت لهم مناصب أخرى ثمانية أبطلها الإسلام رأيتها بخط جدّي العلامة الوزير وهي‏:‏ الدّيَات والحَملات، السِّفارة، الراية، الرّفادة، المشُورة، الأعنة والقبة، الحكُومة وأموالُ الآلهة، الأيْسار‏.‏

فأما الديات والحَمالات‏:‏ فجمع دِيَة وهي عوض دم القتيللِ خطأ أو عمداً إذا صولح عليه؛ وجمع حَمالة بفتح الحاء المهملة وهي الغرامة التي يحملها قوم عن قوم، وكانت لبني تَيْم بن مُرَّةَ بن كعب‏.‏ ومُرّة جدّ قصَي، وجاء الإسلام وهي بيد أبي بكر الصديق‏.‏

وأمّا السِفارة بكسر السين وفتحها فهي السعي بالصلح بين القبائِل‏.‏ والقائم بها يسمّى سفيراً‏.‏ وكانت لبني عدي بن كعب أبناء عمّ لقصي وجاء الإسلام وهي بيد عمر بن الخطاب‏.‏

وأمّا الراية، وتسمّى‏:‏ العُقاب بضم العين لأنّها تخفق فوق الجيش كالعُقاب، فهي راية جَيش قريش‏.‏ وكانت لبني أمية، وجاء الإسلام وهي بيد أبي سفيان بن حرب‏.‏

وأمّا الرّفادة‏:‏ فهي أموال تخرجها قريش إكراماً للحجيج فيطعمونهم جميعَ أيّام الموسم يشترون الجُزُر والطعام والزبيب للنبيذ وكانت لبني نوفل بن عبد مناف، وجاء الإسلام وهي بيد الحارث بن عامر بن نوفل‏.‏

وأمّا المَشُورَة‏:‏ فهي ولاية دار النَّدْوة وكانت لبني أسد بن عبد العُزّى بن قصيّ‏.‏ وجاء الإسلام وهي بيد زيد بن زَمْعَة‏.‏

وأمّا الأعنّة والقُبة فقبّة يضربونها يجتمعون إليها عند تجهيز الجيش وسميت الأعنّة وكانت لبني مخزوم‏.‏ وهم أبناء عم قُصَي، وجاء الإسلام وهي بيد خالد بن الوليد‏.‏

وأمّا الحُكومة وأموالُ الآلاهة ولم أقف على حقيقتها فأحسب أنّ تسميتها الحكومة لأنّ المال المتجمع بها هو ما يحصل من جزاء الصيد في الحرم أو في الإحرام‏.‏ وأمّا تسميتها أموال الآلهة لأنّها أموال تحصل من نحو السائبة والبحيرة وما يوهب للآلهة من سلاح ومتاع‏.‏ فكانت لبني سهم وهم أبناء عمّ لقصي‏.‏ وجاء الإسلام وهي بيد الحارث بن قيس بن سهم‏.‏

وأما الأيسار وهي الأزلام التي يستقسمون بها فكانت لبني جُمح وهم أبناء عمّ لقُصي، وجاء الإسلام وهي بيد صفوان بن أميةَ بننِ خَلَف‏.‏

وقد أبطل الإسلام جميع هذه المناصب، عدا السدانة والسقاية، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع «ألا إنّ كل مأثُرة من مآثر الجاهلية تحت قَدَمَيَّ هاتين إلاّ سِقاية الحاج وسَدانة البيت»

وكانت مناصب العرب التي بيد قصي بن كلاب خمسة‏:‏ الحجابة، والسقاية، والرفادة، والندوة، واللواء فلمّا كبر قصي جعل المناصب لابنه عبد الدار، ثم اختصم أبناء قصي بعد موته وتداعَوا للحرب، ثم تداعَوا للصلح، على أن يعطوا بني عبد الدار الحجابة واللواء والندوة، وأن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، وأحدثت مناصب لبعضضٍ من قريش غيرِ أبناء قصي فانتهت المناصب إلى عشرة كما ذكرنا‏.‏

وذكر الإيمان بالله واليوم الآخر ليس لأنّه محلّ التسوية المردودة عليهم لأنّهم لم يدَّعوا التسوية بين السقاية أو العمارة بدون الإيمان، بل ذِكر الإيمان إدماج، للإيماء إلى أنّ الجهاد أثَرُ الإيمان، وهو ملازم للإيمان، فلا يجوز للمُؤمن التنصّل منه بعلّة اشتغاله بسقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام‏.‏ وليس ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر لكون الذين جعلوا مزية سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام مثل مزية الإيمان ليسوا بمؤمنين لأنّهم لو كانوا غير مؤمنين لما جَعلوا مناصب دينهم مساوية للإيمان، بل لَجعلوها أعظم‏.‏ وإنّما توهّموا أنهما عملان يَعْدِلاننِ الجهاد، وفي الشغل بهما عذر للتخلّف عن الجهاد، أو مزية دينية تساوي مزية المجاهدين‏.‏

وقد دلّ ذكر السقاية والعمارة في جانب المشبّه، وذكر من آمن وجاهد في جانب المشبّه به، على أنّ العملين ومَن عملهما لا يساويان العملَين الآخرين ومَن عملهما‏.‏ فوقع احتباك في طرفي التشبيه، أي لا يستوي العملان مع العملين ولا عاملوا هذين بعاملي ذينك العملين‏.‏ والتقدير‏:‏ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله، وجعلتم سقاية الحاجّ وعمّار المسجد كالمؤمنين والمجاهدين في سبيل الله‏.‏ ولما ذكرت التسوية في قوله‏:‏ ‏{‏لا يستوون عند الله‏}‏ أسندت إلى ضمير العاملين، دون الأعمال‏:‏ لأنّ التسوية لم يشتهر في الكلام تعليقها بالمعاني بل بالذوات‏.‏

وجملة ‏{‏لا يستوون‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً‏:‏ لبيان ما يُسأل عنه من معنى الإنكار الذي في الاستفهام بقوله‏:‏ ‏{‏أجعلتم‏}‏ الآية‏.‏

وجملة ‏{‏والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ تذييل لجملة ‏{‏أجعلتم سقاية الحاج‏}‏ إلخ، وموقعهُ هنا خفي إن كانت السورة قد نزلت بعد غزوة تبوك، وكانت هذه الآية ممّا نزل مع السورة ولم تنْزل قبلها، على ما رجحناه من رواية النعمان بن بشير في سبب نزولها، فإنّه لم يبق يومئذٍ من يجعل سقاية الحاجّ وعمارة البيت تساويان الإيمان والجهاد، حتى يُرَد عليه بما يدلّ على عدم اهتدائه‏.‏ وقد تقدّم ما روي عن عمر بن الخطاب في سبب نزولها وهو يزيد موقعها خفاء‏.‏

فالوجه عندي في موقع جملة ‏{‏والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ أنّ موقعها الاعتراض بين جملة ‏{‏أجعلتم سقاية الحاج‏}‏ وجملة ‏{‏الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 20‏]‏ إلخ‏.‏

والمقصود منها زيادة التنويه بشأن الإيمان، إعلاماً بأنّه دليل إلى الخيرات، وقائد إليها‏.‏ فالذين آمنوا قد هداهم إيمانهم إلى فضيلة الجهاد، والذين كفروا لم ينفعهم ما كانوا فيه من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاجّ، فلم يهدهم الله إلى الخير، وذلك برهان على أنّ الإيمان هو الأصل، وأنّ شُعَبَه المتولّدة منه أفضل الأعمال، وأنّ ما عداها من المكارم والخيرات في الدرجة الثانية في الفضل، لأنّها ليست من شعب الإيمان، وإن كان كلا الصفتين لا ينفع إلاّ إذا كان مع الإيمان، وخاصّة الجهاد‏.‏

وفيه إيماء إلى أنّه‏:‏ لولا الجهاد لما كان أهل السقاية وعمارة المسجد الحرام مؤمنين، فإنّ إيمانهم كان من آثار غزوة فتح مكة وجيششِ الفتح إذ آمن العباس بن عبد المطلب وهو صاحب السقاية، وآمن عثمان بن طَلحة وهو صاحب عمارة المسجد الحرام‏.‏

فأمّا ما رواه الطبري والواحدي عن ابن عباس‏:‏ من أنّ نزول هذه الآية كان يوم بدر، بسبب المماراة التي وقعت بين علي بن أبي طالب والعباس، فموقع التذييل بقوله‏:‏ ‏{‏والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ واضح‏:‏ أي لا يهدي المشركين الذين يسقون الحاجّ ويعمرون المسجد الحرام، إذ لا يجدي ذلك مع الإشراك‏.‏ فتبيّن أنّ ما توهّموه من المساواة بين تلك الأعمال وبين الجهاد، وتنازعهم في ذلك، خطأ من النظر، إذ لا تستقيم تسوية التابع بالمتبوع والفرععِ بالأصل، ولو كانت السقاية والعمارة مساويتين للجهاد لكان أصحابهما قد اهتدوا إلى نصر الإيمان، كما اهتدى إلى نصره المجاهدون، والمشاهدة دلّت على خلاف ذلك‏:‏ فإنّ المجاهدين كانوا مهتدين ولم يكن أهل السقاية والعمارة بالمهتدين‏.‏ فالهداية شاع إطلاقها مجازاً باستعارتها لمعنى الإرشاد على المطلوب، وهي بحسب هذا الإطلاق مراد بها مطلوب خاص وهو ما يطلبه مَن يعمل عملاً يتقرب به إلى الله، كما يقتضيه تعقيب ذكر سقاية الحاج وعمارة المسجد بهذه الجملة‏.‏

وكنّي بنفي الهداية عن نفي حصول الغرض من العمل‏.‏

والمعنى‏:‏ والله لا يقبل من القوم المشركين أعمالهم‏.‏

ونسب إلى ابن وردان أنّه روي عن أبي جعفر أنّه قرأ‏:‏ ‏{‏سُقَاةَ الحاج‏}‏ بضم السين جمع الساقي وقرأ ‏{‏وعَمَرَة‏}‏ بالعين المفتوحة وبدون ألف وبفتح الراء جمع عامر وقد اختلف فيها عن ابن وَردان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

هذه الجملة مبيّنة لنفي الاستواء الذي في جملة ‏{‏لا يستون عند الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 19‏]‏ ومفصّلة للجهاد الذي في قوله‏:‏ ‏{‏كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 19‏]‏ بأنّه الجهاد بالأموال والأنفس، وإدماج لبيان مزية المهاجرين من المجاهدين‏.‏

و ‏(‏الذين هاجروا‏)‏ هم المؤمنون من أهل مكة وما حولها، الذين هاجروا منها إلى المدينة لما أذنهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إليها بعد أن أسلموا، وذلك قبل فتح مكة‏.‏

والمهاجَرة‏:‏ ترك الموطن والحلولُ ببلد آخر، وهي مشتقّة من الهجر وهو الترك، واشتقّت لها صيغة المفاعلة لاختصاصها بالهجر القوي وهو هجر الوطن، والمراد بها في عرف الشرع هجرة خاصّة‏:‏ وهي الهجرة من مكة إلى المدينة، فلا تشمل هجرةَ مَن هاجر من المسلمين إلى بلاد الحبشة لأنّها لم تكن على نية الاستيطان بل كانت هجرة مؤقته، وتقدّم ذكر الهجرة في آخر سورة الأنفال‏.‏

والمفضل عليه محذوف لظهوره‏:‏ أي أعظم درجة عند الله من أصحاب السقاية والعمارة الذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا الجهاد الكثير الذي جاهده المسلمون أيام بقاء أولئك في الكفر، والمقصود تفضيل خصالهم‏.‏

والدرجة تقدّمت عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وللرجال عليهن درجة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏228‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لهم درجات عند ربّهم‏}‏ في أوائل الأنفال ‏(‏4‏)‏‏.‏ وهي في كلّ ذلك مستعارة لرفع المقدار‏.‏ وعند الله‏}‏ إشارة إلى أنّ رفعة مقدارهم رفعة رضى من الله وتفضيل بالتشريف، لأنّ أصل ‏(‏عند‏)‏ أنّها ظرف للقرب‏.‏

وجملة ‏{‏وأولئك هم الفائزون‏}‏ معطوفة على ‏{‏أعظم درجة‏}‏ أي‏:‏ أعظم وهم أصحاب الفوز‏.‏ وتعريف المسند باللام مفيد للقصر، وهو قصر ادّعائي للمبالغة في عظم فوزهم حتّى إن فوز غيرهم بالنسبة إلى فوزهم يُعَدّ كالمعدوم‏.‏

والإتيان باسم الإشارة للتنبيه على أنّهم استحقوا الفوز لأجل تلك الأوصاف التي ميزّتهم‏:‏ وهي الإيمان والهجرة والجهاد بالأموال والأنفس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ‏(‏21‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏

بيان للدرجة العظيمة التي في قوله‏:‏ ‏{‏أعظم درجة عند الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 20‏]‏ فتلك الدرجة هي عناية الله تعالى بهم بإدخال المسرّة عليهم، وتحقيق فوزهم، وتعريفهم برضوانه عليهم، ورحمته بهم، وبما أعد لهم من النعيم الدائم‏.‏ ومجموع هذه الأمور لم يمنحه غيرهم من أهل السقاية والعمارة، الذين وإن صلحوا لأن ينالوا بعض هذه المزايا فهم لم ينالوا جميعها‏.‏

والتبشير‏:‏ الإخبار بخير يحصل للمخبَر لم يكن عالماً به‏.‏

فإسناد التبشير إلى اسم الجلالة بصيغة المضارع، المفيد للتجدّد، مؤذن بتعاقب الخيرات عليهم، وتجدّد إدخال السرور بذلك لهم، لأنّ تجدّد التبشير يؤذن بأن المبشّر به شيء لم يكن معلوماً للمبشَّر ‏(‏بفتح الشين‏)‏ وإلاّ لكان الإخبار به تحصيلاً للحاصل‏.‏

وكون المسند إليه لفظ الربّ، دون غيره ممّا يدلّ على الخالق سبحانه، إيماء إلى الرحمة بهم والعناية‏:‏ لأنّ معنى الربوبية يَرجع إلى تدبير المربوب والرفق به واللطف به، ولتحصل به الإضافة إلى ضميرهم إضافة تشريف‏.‏

وتقدّمت الرحمة في قوله‏:‏ ‏{‏الرحمن الرحيم‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 1‏]‏‏.‏

والرضوان بكسر الراء وبضمها‏:‏ الرضا الكامل الشديد، لأنّ هذه الصيغة تشعر بالمبالغة مثل الغُفران والشُكران والعِصيان‏.‏

والجنّات تقدّم الكلام عليها في ذكر الجنة في سورة البقرة، وجمعها باعتبار مراتبها وأنواعها وأنواععِ النعيم فيها‏.‏

والنعيم‏:‏ ما به التذاذ النفس باللذات المحسوسة، وهو أخصّ من النِعمة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الأبرار لفي نعيم‏}‏ ‏[‏الإنفطار‏:‏ 13‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ثم لتسألن يومئذ عن النعيم‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏ 8‏]‏‏.‏

والمقيم المستمرّ، استعيرت الإقامة للدوام والاستمرار‏.‏

والتنكير في ‏{‏برحمة، ورضوان، وجنات، ونعيم‏}‏ للتعظيم، بقرينة المقام، وقرينة قوله ‏{‏منه‏}‏ وقرينة كون تلك مبشرّاً بها‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله عنده أجر عظيم‏}‏ تذييل وتنويه بشأن المؤمنين المهاجرين المجاهدين لأنّ مضمون هذه الجملة يعمّ مضمون ما قبلها وغيرَه، وفي هذا التذييل إفادة أنّ ما ذكر من عظيم درجات المؤمنين المهاجرين المجاهدين هو بعض ما عند الله من الخيرات فيحصل من ذلك الترغيب في الازدياد من الأعمال الصالحة ليزدادوا رفعة عند ربّهم، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه «ما عَلى من دُعي من جميع تلك الأبواب من ضَرورة»‏.‏

والأجرُ‏:‏ العوض المعطى على عمل، وتقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏إذا آتيتموهن أجورهن‏}‏ في سورة العقود ‏(‏5‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي لافتتاح غرض آخر وهو تقريع المنافقين ومن يواليهم، فإنّه لمّا كان أوّل السورة في تخطيط طريقة معاملة المظهرين للكفر، لا جرم تهيّأ المتامُ لمثل ذلك بالنسبة إلى من أبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان‏:‏ المنافقينَ من أهل المدينة ومن بقايا قبائل العرب؛ ممّن عُرفوا بذلك، أو لم يعرفوا وأطْلَعَ الله عليهم نبيَئه صلى الله عليه وسلم وحذّر المؤمنين المطّلعين عليهم من بطانتهم وذوي قرابتهم ومخالطتهم، وأكثر ما كان ذلك في أهل المدينة لأنّهم الذين كان معظمهم مؤمنين خلصاً، وكانت من بينهم بقية من المنافقين وهم من ذوي قرابتهم، ولذلك افتتح الخطاب ‏{‏يأيها الذين آمنوا‏}‏ إشعاراً بأنّ ما سيلقى إليهم من الوصايا هو من مقتضَيات الإيمان وشِعاره‏.‏

وقد أسفرت غزوة تبوك التي نزلت عقبها هذه السورة عن بقاء بقية من النفاق في أهل المدينة والأعراب المجاورين لها كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 90‏]‏ وقوله ‏{‏وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 101‏]‏ ونظائرهما من الآيات‏.‏

روى الطبري عن مجاهد، والواحدي عن الكلبي أنّهم لمّا أمِروا بالهجرة وقال العبّاس‏:‏ أنا أسقي الحاج، وقال طلحة أخو بني عبد الدار‏:‏ أنا حاجب الكعبة، فلا نهاجر، تعلّق بعض الأزواج والأبناء ببعض المؤمنين فقالوا «أتضيّعوننا» فَرَقُّوا لهم وجلسوا معهم، فنزلت هذه الآية‏.‏

ومعنى ‏{‏استحبوا الكفر‏}‏ أحبّوه حبّاً متمكّناً‏.‏ فالسين والتاء للتأكيد، مثل ما في استقام واستبشر‏.‏

حذر الله المؤمنين من موالاة من استحبّوا الكفر على الإيمان، في ظاهر أمرهم أو باطنه، إذا اطّلعوا عليهم وبدت عليهم أمارات ذلك بما ذَكَر من صفاتهم في هذه السورة، وجعل التحذير من أولئك بخصوص كونهم آباء وإخواناً تنبيهاً على أقصى الجدارة بالولاية ليعلم بفحوى الخطاب أنّ مَن دونهم أولى بحكم النهي‏.‏ ولم يذكر الأبناء والأزواج هنا لأنّهم تابعون فلا يقعدون بعدَ متبوعيهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فأولئك هم الظالمون‏}‏ أريد به الظالمون أنفسَهم لأنّهم وقعوا فيما نهاهم الله، فاستحقّوا العقاب فظلموا أنفسهم بِتسبّب العذاب لها، فالظلم إذن بمعناه اللغوي وليس مراداً به الشرك‏.‏ وصيغة الحصر للمبالغة بمعنى أنّ ظلم غيرهم كلا ظلم بالنسبة لعظمة ظلمهم‏.‏ ويجوز أن يكون هم ‏{‏الظالمون‏}‏ عائِداً إلى ما عاد إليه ضمير النصب في قوله‏:‏ ‏{‏ومن يتولهم‏}‏ أي إلى الآباء والإخوان الذين استحبّوا الكفر على الإيمان، والمعنى ومن يتولّهم فقد تولّى الظالمين فيكون الظلم على هذا مراداً به الشرك، كما هو الكثير في إطلاقه في القرآن‏.‏

والإتيان باسم الإشارة لزيادة تمييز هؤلاء أو هؤلاء، وللتنبيه على أنّ جدارتهم بالحكم المذكور بعد الإشارة كانت لأجل تلك الصفات أعني استحباب الكفر على الإيمان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

ارتقاء في التحذير من العلائق التي قد تفضي إلى التقصير في القيام بواجبات الإسلام، فلذلك جاءت زيادة تفصيل الأصناف من ذوي القرابة وأسباببِ المخالطة التي تكون بين المؤمنين وبين الكافرين، ومن الأسباب التي تتعلّق بها نفوس الناس فيَحول تعلّقُهم بها بينَهم وبين الوفاء ببعض حقوق الإسلام، فلذلك ذكر الأبناءُ هنا لأنّ التعلّق بهم أقوى من التعلّق بالإخوان، وذُكر غيرهم من قريب القرابة أيضاً‏.‏

وابتداء الخطاب ب ‏{‏قُل‏}‏ يشير إلى غِلَظِه والتوبيخ به‏.‏

والمخاطب بضمائر جماعة المخاطبين‏:‏ المؤمنون الذين قصروا في بعض الواجب أو المتوقّع منهم ذلك، كما يشعر به اقتران الشرط بحرف الشّكّ وهو ‏{‏إنْ‏}‏ ويفهم منه أنّ المسترسلين في ذلك المُلابِسينَ له هم أهل النفاق، فهم المعرَّض لهم بالتهديد في قوله‏:‏ ‏{‏فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏‏.‏

وقد جمعت هذه الآية أصنافاً من العلاقات وذويها، من شأنها أن تألفها النفوس وترغب في القرب منها وعدم مفارقتها، فإذا كان الثبات على الإيمان يجرّ إلى هجران بعضها كالآباء والإخوان الكافرين الذين يهجر بعضهم بعضاً إذا اختلفوا في الدين، وكالأبناء والأزواج والعشيرة الذين يألف المرء البقاء بينهم، فلعلّ ذلك يقعده عن الغزو، وكالأموال والتجارة التي تصدّ عن الغزو وعن الإنفاق في سبيل الله‏.‏ وكذلك المساكن التي يألف المرء الإقامة فيها فيصدّه إلفها عن الغزو‏.‏ فإذا حصل التعارض والتدافع بين ما أراده الله من المؤمنين وبين ما تَجُرُّ إليه تلك العلائق وجب على المؤمِن دحضها وإرضاء ربّه‏.‏

وقد أفاد هذا المعنى التعبير ب ‏{‏أحب‏}‏ لأنّ التفضيل في المحبّة يقتضي إرضاء الأقوى من المحبوبين، ففي هذا التعبير تحذير من التهاون بواجبات الدين مع الكناية عن جعل ذلك التهاون مُسبّباً على تقديم محبّة تلك العلائق على محبّة الله، ففيه إيقاظ إلى ما يؤول إليه ذلك من مهواة في الدين وهذا من أبلغ التعبير‏.‏

وخصّ الجهاد بالذكر من عموم ما يحبّه الله منهم‏:‏ تنويهاً بشأنه، ولأنّ ما فيه من الخطر على النفوس ومن إنفاق الأموال ومفارقة الإلف، جَعله أقوى مظنّة للتقاعس عنه، لا سيما والسورة نزلت عقب غزوة تبوك التي تخلّف عنها كثير من المنافقين وبعضُ المسلمين‏.‏

و ‏(‏العَشيرة‏)‏ الأقارب الأدْنَوْن، وكَأنه مشتقّ من العِشْرة وهي الخلطة والصحبة‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏وعشيرتكم‏}‏ بصيغة المفرد وقرأه أبو بكر عن عاصم ‏{‏وعشيراتكم جمع عشيرة ووجهه‏:‏ أنّ لكلّ واحد من المخاطبين عشيرة، وعن أبي الحسن الأخفش‏:‏ إنّما تَجمعَ العرب عشيرة على عشائر ولا تكاد تقول عَشيرات، وهذه دعوى منه، والقراءة رواية فهي تَدفَع دَعواه‏.‏

والاقتراف‏:‏ الاكتساب، وهو مشتقّ من قارف إذا قارَب الشيء‏.‏

والكساد، قلّة التبايع وهو ضدّ الرَّولج والنَّفاق، وذلك بمقاطعة طوائف من المشركين الذين كانوا يتبايعون معهم، وبالانقطاع عن الاتّجار أيام الجهاد‏.‏

وجُعل التفضيل في المحبّة بين هذه الأصناف وبين محبّة الله ورسوله والجهاد‏:‏ لأنّ تفضيل محبّة الله ورسوله والجهاد يوجب الانقطاع عن هذه الأصناف، فإيثار هذه الأشياء على مَحبة الله يفضي موالاة إلى الذين يستحبّون الكفر، وإلى القعود عن الجهاد‏.‏

والتربّص‏:‏ الانتظار، وهذا أمر تهديد لأنّ المراد انتظار الشرّ‏.‏ وهو المراد بقوله‏:‏ حتى يأتي الله بأمره‏}‏ أي الأمر الذي يظهر به سوء عاقبة إيثاركم محبّة الأقارب والأموال والمساكين، على محبّة الله ورسوله والجهادِ‏.‏

والأمر‏:‏ اسم مبهم بمعنى الشيء والشأن، والمقصود من هذا الإبهام التهويل لتذهب نفوس المهدَّدين كلّ مذهب محتمل، فأمر الله‏:‏ يحتمل أن يكون العذَابَ أو القتل أو نحوهما، ومن فسّر أمر الله بفتح مكة فقد ذهل لأنّ هذه السورة نزلت بعد الفتح‏.‏

وجملة ‏{‏والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏ تذييل، والواو اعتراضية وهذا تهديد بأنّهم فضلوا قرابتهم وأموالهم على محبّة الله ورسوله وعلى الجهاد فقد تحقّق أنّهم فاسقون والله لا يهدي القوم الفاسقين فحصل بموقع التذييل تعريض بهم بأنّهم من الفاسقين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

لما تضمّنت الآيات السابقة الحث على قتال المشركين ابتداء من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏، وكان التمهيد للإقدام على ذلك مدرَّجا بإبطال حرمة عهدهم، لشركهم، وبإظهار أنّهم مضمرون العزم على الابتداء بنقض العهود التي بينهم وبين المسلمين لو قُدّر لهم النصر على المسلمين وآية ذلك‏:‏ اعتداؤهم على خزاعة أحلاف المسلمين، وهمُّهم بإخراج الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة بعد الفتح، حتى إذا انتهى ذلك التمهيد المدرج إلى الحثّ على قتالهم وضمان نصر الله المسلمين عليهم، وما اتّصل بذلك ممّا يثير حماسة المسلمين جاء في هذه الآية بشواهد ما سبق من نصر الله المسلمين في مواطن كثيرة، وتذكير بمقارنة التأييد الإلهي لحالة الامتثال لأوامره، وإنّ في غزوة حنين شواهد تشهد للحالين‏.‏ فالكلام استيناف ابتدائي لمناسبة الغرض السابق‏.‏

وأسند النصر إلى الله بالصراحة لإظهار أنّ إيثار محبّة الله وإن كان يُفيت بعض حظوظ الدنيا، ففيه حظ الآخرة وفيه حظوظ أخرى من الدنيا وهي حظوظ النصر بما فيه‏:‏ من تأييد الجامعة، ومن المغانم، وحماية الأمة من اعتداء أعدائها، وذلك من فضل الله إذ آثروا محبّته على محبّة علائقهم الدنيوية‏.‏

وأكّد الكلام ب ‏{‏قد‏}‏ لتحقيق هذا النصر لأنّ القوم كأنّهم نسوه أو شكّوا فيه فنزلوا منزلة من يحتاج إلى تأكيد الخبر‏.‏

و ‏{‏مواطن‏}‏‏:‏ جمع مَوْطِن، والموطن أصله مكان التوطّن، أي الإقامة‏.‏ ويطلق على مقام الحرب وموقفها، أي نصركم في مواقع حروب كثيرة‏.‏

و ‏{‏يومَ‏}‏ معطوف على الجار والمجرور من قوله‏:‏ ‏{‏في مواطن‏}‏ فهو متعلّق بما تعلّق به المعطوف عليه وهو ‏{‏نصركم‏}‏ والتقدير‏:‏ ونَصَركم يومَ حنين وهو من جملة المواطن، لأنّ مواطن الحرب تقتضي أياماً تقع فيها الحرب، فتدلّ المواطن على الأيام كما تدلّ الأيام على المواطن، فلمّا أضيف اليوم إلى اسم مكاننٍ علم أنّه موطِن من مواطن النصر ولذلك عطف بالواو لأنّه لو لم يعطف لتوهّم أنّ المواطن كلّها في يوم حنين، وليس هذا المراد‏.‏ ولهذا فالتقدير‏:‏ في مواطن كثيرة وأياممٍ كثيرة منها موطن حنين ويومُ حنين‏.‏

وتخصيص يوم حنين بالذكر من بين أيام الحروب‏:‏ لأنّ المسلمين انهزموا في أثناء النصر ثم عادَ إليهم النصر، فتخصيصه بالذكر لما فيه من العبرة بحصول النصر عند امتثال أمر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام وحصول الهزيمة عند إيثار الحظوظ العاجلة على الامتثال، ففيه مثَل وشاهد لحالتي الإيثارين المذكورين آنفاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 24‏]‏ ليتنبّهوا إلى أنّ هذا الإيثار قد يعرض في أثناء إيثار آخر، فهم لَمَّا خرجوا إلى غزوة حنين كانوا قد آثروا محبّة الجهاد على محبّة أسبابهم وعلاقاتهم، ثم هم في أثناء الجهاد قد عاودهم إيثار الحظوظ العاجلة على امتثال أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي هو من آثار إيثار محبّتها، وهي عبرة دقيقة حصل فيها الضّدان ولذلك كان موقع قوله‏:‏ ‏{‏إذ أعجبتكم كثرتكم‏}‏ بديعاً لأنّه تنبيه على خطئِهم في الأدب مع الله المناسب لِمقامهم أي‏:‏ ما كان ينبغي لكم أن تعتمدوا على كثرتكم‏.‏

و ‏{‏حُنين‏}‏ اسم واد بين مكة والطائف قُرب ذي المجاز، كانت فيه وقعَة عظيمة عقب فتح مكة بين المسلمين مع النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا اثني عشر ألفاً، وبين هوازن وثقيف وألفاً فهما، إذ نهضوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم حمية وغضباً لهزيمة قريش ولفتح مكة، وكان على هوازن مالك بن عوف، أخو بني نصر، وعلى ثقيف عبد يَالِيل بن عمرو الثقفي، وكانوا في عدد كثير وساروا إلى مكة فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم حتّى اجتمعوا بحُنين فقال المسلمون‏:‏ لن نغلب اليومَ من قلّة، ووثقوا بالنصر لقوّتهم، فحصلت لهم هزيمة عند أوّل اللقاء كانت عتاباً إلهياً على نسيانهم التوكّل على الله في النصر، واعتمادهم على كثرتهم، ولذلك روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا سمع قول بعض المسلمين «لن نغلب من قلّة» ساءهُ ذلك، فإنّهم لمّا هبطوا وادي حنين كان الأعداء قد كمنوا لهم في شعابه وأحنائه، فما راع المسلمين وهم منحدرون في الوادي إلاّ كتائبُ العدوّ وقد شَدَّت عليهم وقيل‏:‏ إنّ المسلمين حملوا على العدوّ فانهزم العدوّ فلحقوهم يغنمون منهم، وكانت هوازن قوماً رُماة فاكثبوا المسلمينَ بالسهام فأدبر المسلمون راجعين لا يلوي أحد على أحد، وتفرّقوا في الوادي، وتطاول عليهم المشركون ورسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت في الجهة اليمنى من الوادي ومعه عشرة من المهاجرين والأنصار فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العباسَ عمَّه أن يصرخ في الناس‏:‏ يا أصحاب الشجرة أو السمرة يعني أهل بيعة الرضوان يا معشر المهاجرين يا أصحاب سورة البقرة يعني الأنصار هلمّوا إلي، فاجتمع إليه مائة، وقاتلوا هوازن مع من بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم واجتلد الناس، وتراجع بقية المنهزمين واشتدّ القتال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الآن حَمِي الوطيس» فكانت الدائرةُ على المشركين وهُزموا شرّ هزيمة وغنمت أموالهم وسُبيت نساؤهم‏.‏

فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وضاقت عليكم الأرض بما رحبت‏}‏ وهذا التركيب تمثيل لحال المسلمين لمّا اشتدّ عليهم البأس واضطربوا ولم يهتدوا لدفع العدوّ عنهم، بحال من يرى الأرض الواسعةَ ضيّقةً‏.‏

فالضيق غير حقيقي بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏بما رحبت‏}‏ استعير ‏{‏وضاقت عليكم الأرض بما رحبت‏}‏ استعارة تمثيلية تمثيلاً لحال من لا يستطيع الخلاص من شدّة بسبب اختلال قوة تفكيره، بحال من هو في مكان ضَيِّق من الأرض يريد أن يخرج منه فلا يستطيع تجاوزه ولا الانتقال منه‏.‏

فالباء للملابسة، و‏{‏ما‏}‏ مصدرية، والتقدير‏:‏ ضاقت عليكم الأرض حالة كونها ملابسة لرحبها أي سعتها‏:‏ أي في حالة كونها لا ضيق فيها وهذا المعنى كقول الطرماح بن حكيم‏:‏

ملأتُ عليه الأرض حتّى كأنّها *** من الضيق في عينيْه كفة حابل

قال الأعلم «أي من الزعر» هو مأخوذ من قول الآخر‏:‏

كأنَّ فجاج الأرض وهي عريضة *** على الخائف المطلوب كفّة حابل

وهذا أحسن من قول المفسّرين أنّ معنى ‏{‏وضاقت عليكم اورض بما رحبت‏}‏ لمْ تهتدوا إلى موضع من الأرض تفرّون إليه فكأنَّ الأرض ضاقت عليكم، ومنهم من أجمل فقال‏:‏ أي لشدّة الحال وصعوبتها‏.‏

وموقع ‏{‏ثُم‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ثم وليتم مدبرين‏}‏ موقع التراخي الرتبي، أي‏:‏ وأعظم ممّا نالكم من الشرّ أن وليتم مدبرين‏.‏

والتولّي‏:‏ الرجوع، و‏{‏مدبرين‏}‏ حال‏:‏ إمّا مؤكّدة لمعنى ‏{‏وليتم‏}‏ أو أريد بها إدبار أخص من التولّي، لأنّ التولّي مطلق يكون للهروب، ويكون للفرّ في حِيل الحروب، والإدبار شائع في الفرار الذي لم يقصد به حيلة فيكون الفرق بينه وبين التولّي اصطلاحاً حربياً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

عطف على قوله‏:‏ ‏{‏ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 25‏]‏‏.‏

و ‏{‏ثم‏}‏ دالّة على التراخي الرتبي فإنّ نزول السكينة ونزول الملائكة أعظم من النصر الأول يوم حنين، على أنّ التراخي الزمني مراد؛ تنزيلاً لعظم الشدة وهول المصيبة منزلة طول مدّتها، فإن أزمان الشدّة تخيّل طويلة وإن قَصُرت‏.‏

والسكينة‏:‏ الثبات واطمئنان النفس وقد تقدّم بيانها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏248‏)‏، وتعليقها بإنزال الله، وإضافتها إلى ضميره‏:‏ تنويه بشأنها وبركتها، وإشارة إلى أنّها سكينة خارقة للعادة ليست لها أسباب ومقدّمات ظاهرة، وإنّما حصلت بمحض تقدير الله وتكوينه أُنُفاً كرامةً لنبيئه وإجابة لندائِه الناسَ، ولذلك قدّم ذكر الرسول قبل ذكر المؤمنين‏.‏

وإعادة حرف على‏}‏ بعد حرف العطف‏:‏ تنبيه على تجديد تعليق الفعل بالمجرور الثاني للإيماء إلى التفاوت بين السكينتين‏:‏ فسكينة الرسول عليه الصلاة والسلام سكينة اطمئنان على المسلمين الذين معه وثقة بالنصر، وسكينة المؤمنين سكينة ثبات وشجاعة بعد الجزع والخوف‏.‏

والجنود جمع جند‏.‏ والجند اسم جَمع لا واحد له من لفظه، وهو الجماعة المهيّئة للحرب، وواحدهُ بياء النسب‏:‏ جُندي، وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما فصل طالوت بالجنود‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏249‏)‏‏.‏ وقد يطلق الجند على الأمّة العظيمة ذات القوة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود‏}‏ في سورة البروج ‏(‏17، 18‏)‏ والمراد بالجنود هنا جماعات من الملائكة موكّلون بهزيمة المشركين كما دلّ عليه فعل أنزل، أي أرسلها الله لنصرة المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب المشركين، ولذلك قال‏:‏ لم تروها‏}‏ ولكون الملائكة ملائكةَ النصر أطلق عليها اسم الجنود‏.‏

وتعذيبه الذين كفروا‏:‏ هو تعذيب القتل والأسر والسبي‏.‏

والإشارة ب ‏{‏وذلك جزاء الكافرين‏}‏ إلى العذاب المأخوذ من ‏{‏عَذَّب‏.‏